إن البحث عن الحقيقة والانتصار لها هدف يسعى من أجله المفكرون في كل زمان ومكان، وقد كان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية التي جاءت لتُعَلِّم الإنسان كيف أن الحوار الفكري الإيجابي هو السبيل الأمثل للوصول للحقيقة، جاء الإسلام ليكون دين الحوار، ليعلم الناس أن يجادلوا المخالفين لهم بالتي هي أحسن، ويحرر العقل البشري لينتقل به من مرحلة الظن والشك، إلى مرحلة الإيمان واليقين، دون خوف أو إكراه أو شطط.
حول هذا الموضوع تحدث الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق – الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – أننا عادة ما نستخدم لفظ الجدل في الإشارة إلى مراجعة الكلام في الدين بين أفراد أو جماعات، والجدل كفعل إنساني قد يكون محمودا أو مذموما حسب شواهده ونتائجه.
متى يكون الجدل مذموما؟
عندما يكون الجدل في القطعيات، (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) غافر:4، فلا يخاصم في حجج الله وآياته وبراهينه إلا الذين كفروا، أيضا المجادلة بغير علم تُعد جدلا مذموما لأن هدف صاحبها ليس التعلم وإنما ليضل عن سبيل الله، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴿3﴾ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿4﴾ ) الحج: 3-4، فلو كان كل مجادل يتكلم لهوى في نفسه، فالأهواء سيضرب بعضها بعضا ولن يخرج الناس بشيء، فلا شيء مشترك مبني على علم يرجع إليه المتجادلون.
والمجادلة لها ثلاثة صور – في رأي الدكتور اللويحق – أولاهم مجادلة العالِم للعالِم؛ وهؤلاء مجادلتهم محمودة لأن مرادهم هو الوصول إلى الحق، قد يبين أحدهما للآخر من الأدلة أو من أوجه الفهم ما لم يكن واضحا للآخر، فيريد الواحد منهم الوصول إلى الحق.
ثم تأتي مجادلة الجاهل للعالِم و مجادلة العالِم للجاهل، وكلاهما مذموم لأن مؤداها إما تطاول الجاهل على العالم بسوء اللفظ والاستهانة بقدره، أو ضيق العالم برفض الجاهل للتعلم وتجرؤه على المجادلة فيما لا يفقه.
إن المجادلة بغير علم – يقول الشيخ - تفتح أبواب الفساد على الطرفين، وتفتح أمامهم إشكالات لا يستطيعون دفعها، فمن البلايا في أيامنا هذه أن يتجادل الناس في أمور عظيمة وهو غير مؤهلين للحوار والجدل فيها، وليس لهم ثمة مرجعية يعودون إليها، فهنا تنفتح أبواب من الضلال والانحراف، ويظهر هذا بشدة في مواقع التواصل الاجتماعي، فأكثر الجدل في حياتنا الآن يقع في العالم الافتراضي، وليس في العالم الحقيقي.
لذا فإن الجدل بغير علم هو جدل مذموم، مثله مثل الجدل حول ما سكت عنه الشرع، والجدل فيما لا يمكن العلم به؛ كالجدل حول كيفيات الآخرة، وحقائق الصفات.
من الجدل المذموم أيضا الجدل فيما يسع فيه الخلاف، قد يجادل البعض في أمر واسع، يحتمل أن يكون كلا الطرفين محقا، أو الجدل من أجل المجادلة دون سبب أو داع، فلا يريد أحدهم الوصول إلى الحق، وربما كان المجادل إذا كان ممن ملكوا ناصية الكلام يتلذذ من مجرد طرح الشبهات ليدور جدل حولها ويرى انفعال الآخرين.
لماذا نهينا عن هذه الأصناف من الجدل؟
يرى الدكتور اللويحق أن أول أثر لشيوع الجدل المذموم أن هذا الجدل يؤدي إلى تكذيب القرآن والسنة، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) آل عمران:7، وهنا تأتي مسألة الخوض في آيات الله، معظم اللذين يجادلون يخوضون في آيات الله بغير علم، لذلك نهينا أن نجالس أصحاب الخصومة ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام:68، فالخصومات مواضع الزلل، قد تؤدي إلى التلون حسب قوة المتجادل وفصاحته، بينما ينبغي أن يكون المؤمن وقاف عند كلام الله وكلام رسوله –صلى الله عليه وسلم- وليس نهبا لجدل المجادلين، فليست المسألة باستطالة اللسان وإنما بقوة الحجة والعلم.
وأضاف الشيخ أن من أسباب النهي عن صنوف الجدل هذه أيضا؛ أن المجادل قد يكون سببا في ضلال الآخرين، لأن الجدال حول رأي يولد رأيا آخر، ومن المذهب مذهبا آخر، فالأهواء تولِّد شبهات تنفتح في عقول الناس، وتورث إشكالات الجميع في غِنى عنها، قال ابن سيرين رحمه الله: ( إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء)، لذلك ينبغي أن يظل مصدرنا الوحيد هو كلام الله والرسول –صلى الله عليه وسلم- وليس كل صاحب لسان ورأي، فالمجادلة قد تفضي إلى المغالبة، والانشغال عن العمل بالاسترسال فيما لانهاية له، فلا يصبح هدف المتجادلين الوصول إلى الحق، وإنما يصبح هدفهم الأكبر هو المغالبة فقط.