لقد دعا دين الإسلام منذ أن جاء إلى تهذيب وتربية النفس، وتنقيتها من المشاعر السلبية، وتنحية الأخلاقيات المذمومة، وقد أرست الشريعة قواعد وضوابط للمشاعر والانفعالات الإنسانية، ونهت عن الإسراف في كل أمر، حبا أو بغضا، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة، فهو -صلى الله عليه وسلم- كان مثالا للأناة والحلم، والعدل والموضوعية، وحسن الخلق، لكن واقع الحال اليوم، أن كثيرا من المسلمين يعيشون تحت ضغط نفسي، وفي أجواء قد تسبب لهم الإحباط أو الغضب، ومن ثم صارت القضية الملحة لدي المصلحين من علماء الأمة؛ كيفية إدارة الغضب ومنع تراكم المشاعر السلبية لدى المسلمين، ومحاولة تدارك المشكلات، لئلا تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، من التدهور في مهاوي العنف، والاحتكام إلى منطق القوة المرذولة غير مأمونة العواقب.
حول ضرورة ضبط النفس والتحلي بالصبر إزاء المواقف العصيبة، يقول فضيلة الشيخ الدكتور محمد صالح المنجد، أن الله سبحانه وتعالى قد خلق النفس وهداها النجدين، وجعل فيها من الميل والأهواء ما هو ابتلاءا واختبارا، فالإنسان في غالب أمره تتعارض في نفسه نزعتان؛ نزعة تدعوه إلى طاعة ربه، ونزعه تدعوه إلى اقتراف المعصية، والمسلم الموفق هو من ضبط نفسه ومنعها من الفجور وألزمها التقوى.
وضبط النفس يتحقق بأن يتحرى المسلم مواطن الحق، مع الالتزام بالحلم، والاعتدال، والتأني، والإنصاف، وأن يجاهد النفس ويكبح جماحها لتسير وفق مقتضى الشرع، يقول الشيخ : "إن نفسك أقرب أعدائك إليك، فابدأ بها فجاهدها".
لقد ابتلي الصحابة بضبط النفس في المرحلة المكّيّة، ومنعوا من الجهاد، ومع ذلك ضبطوا أنفسهم ضبطا عظيما، تنفيذا لأمر الله تعالى حين قال : {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } النساء:77 وهكذا، ينبغي علينا أن نربي أبناءنا على ضبط النفس في كل نشاطات ومواقف الحياة، وأن نحرص نحن على الالتزام بهذا، في أصغر الأمور وأعظمها، في المعاملات اليومية، وحتى في العبادات وإقامة الشعائر.
ففي العبادة؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) رواه مسلم، وفي ضبط اللسان والانفعالات اللفظية (من ضَمِنَ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ورجليهِ ضَمِنْتُ لهُ الجنَّة ) رواه البخاري، وضبط النفس في مسألة الإنفاق {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء:29، ضبط النفس في الطعام والشراب { وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ } الأعراف: 31، ضبط النفس في الحب والبغض والانحياز {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة: 8، ضبط النفس عند سماع الأخبار المشكوك في مصادرها، وعدم نشر الأخبار والشائعات على وسائل التواصل دون تثبت { وإذا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} النساء:83، وانظر إلى الشرع في ضبط النفس في مخالطة الناس، (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) والحديث رواه الترمذي وابن ماجة.
يضيف فضيلة الشيخ أن ضبط النفس في غالب الأمر مكتسب، يأتي بدوام التدريب والتعلم، والله جل وعلا يعين أصحاب المجاهدة، أما من لا يملك عزيمة ولا همة، ولا عنده قوة تحمل ولا يصمد أمام الحرام، فلا عذر له، لأن الشرع أمر المسلم بضبط النفس وعدم التفلت، كما أن هذا الإسلام مسئولية وأمانة، ولا بد من نشره بالطريقة الصحيحة، وهذه الأمانة تأبى وترفض من المسلم أن يتصرف فيها بأي شكلٍ لا يعود بالنفع على الإسلام، وفي كل مجتمعٍ متهورون، وهؤلاء طبقة نعلم أنه لا يمكن القضاء عليها مطلقاً، لكن يمكن التخفيف من شرهم بإسداء النصح لهم ومناقشتهم.
كما يؤكد فضيلة الشيخ أن من أكثر المواقف التي يحتاج فيها المرء إلى فضيلة ضبط النفس؛ عندما يكون ذا منصب وقوة، لأنه إذا لم يضبط نفسه تجده يبطش وينفلت منه زمام الأمر، المدير مع مرؤوسيه، ورب الأسرة مع أطفاله، وصاحب البيت مع الخدم ... إلخ، كل هذه الفوارق في المستوى، والعلو في الدنيا، يزين للإنسان الرغبة في التنكيل والانتقام بسهولة، بسبب وجود المعين المادي على ذلك من قوة وسطوة، وهنا تأتي أهمية وضرورة ضبط النفس، والتمسك بالصبر والحلم لكبح جماح النفس عن الانتقام والبطش.
ويرى الشيخ المنجد أنه مما يعين الإنسان على ضبط النفس؛ النظر في العواقب، لأن من تأمل العواقب الوخيمة، في الدنيا وفي الآخرة، لعدم ضبط النفس، كان ذلك كفيلا بأن يصبر ويضبط نفسه، كما أن اللجوء إلى الله بالدعاء يعين الإنسان على التغلب على نفسه ويصرف عنها السوء.
إن الأمة في هذه الأيام تحتاج إلى الصبر، وحبس النفس عما يمكن أن يؤدي إلى المهالك، وتوجيه الطاقات إلى المجالات الأكثر فائدة للإسلام، مثل الدعوة والتربية، وليعلم شبابنا المتحمسون، يقيناً أن المستقبل للإسلام، وأن الله ناصر دينه، رغم المحاولات الكثيرة والحملات المتعددة إلا أن المسلمون في ازدياد، وأكثر وعيا، وإذا كنا نحن جيل الصحوة فأولادنا جيل النصر إن شاء الله.