لا شك أن ثقافة التعايش تعد ضرورة مجتمعية، وسبيل لضبط وإدارة الاختلاف، لا سيما وأنها وفق المنظور الإسلامي تحقق مراد الله، وترسي دعائم السلام في الأرض، تطبيقا لرسالة الإسلام الذي يأمر بالعدل، ويدعو إلى التعايش الإيجابي والإخاء والتسامح بين كل الناس.
حول هذا الموضوع تحدث فضيلة الدكتور فارس المصطفى، الداعية والمحاضر، مؤكدا أن أول من دعا إلى ثقافة التعايش كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، وهو أول من وضع وثيقة للمواطنة واحترام حقوق الإنسان، قبل عشرات القرون من نشأة المواثيق الدولية والأممية، وذلك بشهادة خصومه قبل شهادة أحبابه، يقول المؤرخ الأميركي ويل ديورانت مؤلف موسوعة (قصة الحضارة): "كان محمد أول من أعطى حقوقا للأقليات في دولة الإسلام".
فحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليؤسس أركان أول دولة في الإسلام، لم يطرد اليهود ولا المشركين الذين كانوا يسكنون المدينة ولم يحاربهم، بل على العكس تماما، أبقاهم النبي وعقد بينه وبينهم معاهدة تحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم، وثيقة كانت بمثابة دستور شامل يعالج قضايا التكامل الاجتماعي والاقتصادي والعلاقات بين الناس داخل الدولة وخارجها.
ويضيف فضيلة الشيخ: إن ديننا رحب يسع الجميع، من أجل هذا فإن هناك ثمة قواعد منظمة للتعايش ما بين المسلمين بعضهم البعض، أو ما بين المسلمين وأصحاب العقائد الأخرى.
أول قاعدة من قواعد التعايش هي احترام العقل، واحترام وجهة نظر الآخر ورؤيته للحياة، كلنا يحفظ الآيات الكريمة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، هذه الآيات تعتبر بمثابة ورقة عمل ينبغي تطبيقها عمليا في مسألة النظر إلى غير المسلمين.
القاعدة الثانية هي احترام الكرامة الإنسانية، ومراعاة مشاعر الآخرين، والبعد عن الاستعلاء والعجب، ربنا جل وعلا يقول في القرآن {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، كل بني آدم، فدين الإسلام هو دين الإنسانية ودين الكرامة، وللأسف كثير من الناس اليوم يحتاج لأن يتعلم هذه الثقافة المتحضرة، نجد أن البعض يأخذه العجب بعمله فيعير أصحاب المعاصي بذنوبهم، أو يحقر عمل غيره استصغارا لشأنه، ربنا سبحانه هو من خلق الناس مختلفين {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، هذا التنوع هو سنة الله في خلقه، واحترام التنوع والاختلاف الفكري يحمل الإنسان على التعايش مع الآخر، لأن ديننا أمرنا أن نحسن للناس، وأن نكون دعاة لدين الله بأخلاقنا.
ثالثا: أن يجعل الإنسان عقله نافذة منفتحة على كافة الأفكار، وتتسع لمختلف الرؤى، ثم يضع نصب عينيه ضوابط الشريعة لتقوم بفلترة ما يفد إليه من أفكار، وقديما قيل أن الحكيم هو من أخذ من الجميع كل ما صفا، وترك كل ما كدر، وأفضل من طبق هذا المبدأ كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، كان لا يستأثر بالرأي مع كونه رسول الله وصاحب الكلمة العليا في دولة الإسلام، وإنما كان يأخذ بالرأي والمشورة مع أصحابه، ورد في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) وقوله (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
رابعا: الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، كان أئمة علماء المسلمين الأوائل يختلفون فيما بينهم حول مسائل فقهية كبيرة، لكنهم كانوا لا يتناسون الفضل بينهم، ويحفظ الواحد منهم قدر أستاذه الذي تعلم العلم على يديه، وهذا قليل في زماننا، نجد من يهجر مسجدا لأن إمامه قال شيئا لا يعجبه، ومن ينقلب على شيخه الذي علمه لمجرد اختلاف وجهات النظر.
خامسا: الصلح والعفو والتسامح، فإصلاح ذات البين هو أقصر الطرق إلى الجنة، ومن يتنازل ويتسامح من أجل طاعة الرحمن وإغاظة الشيطان سيكرمه الله بعفوه وغفرانه {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن:14]، ينبغي أن تكون على يقين من أنه لابد وأن يعزك الله وأن يرفع قدرك إذا تسامحت مع الآخرين وطبقت مبدأ التعايش، وللأسف بعض الناس يظن أن التسامح درب من الضعف والهوان، وينسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا) [رواه مسلم].
من أجل هذا فإن عالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس، كفضيلة أخلاقية ودينية، أكثر من أي وقت مضى.