لقد أظلنا في هذه الأيام موسم عظيم، هو خير مواسم العام على الإطلاق، فيه تجتمع وفود الله من أنحاء الأرض، يحدوهم الشوق، يلبون نداء إبراهيم عليه السلام، ويرجون تجارة لن تبور، والحج معناه "القصد" و"التوجه" كما يقول الدكتور علي بادحدح – أستاذ علوم القرآن بجامعة الملك عبد العزيز- فمن حج البيت معناه أنه قصده وتوجه إليه مُعظِما له، ونحن حين نرى الحاج يقصد بيت الله ندرك أن الحج هو التوجه إلى أداء المناسك والتخفف من متاع الدنيا، والامتثال الكامل لأمر الخالق، لكننا لو تأملنا في منظومة الحج العظيمة، لرأينا أنه ينبغي أن تكون حياتنا كلها حج، نقصد فيه وجه الله، لا تجذبنا الدنيا ولا تشغلنا، ولا تكون سببا في أن نعادي أولياء الله، أو نوالي أعداء الله.
والناظر إلى الحقائق القرآنية المتعلقة بجوهر الإقبال على الله والإخلاص له نجد أن المفلحين هم من يريدون وجه الله، من يخلصون له ، من يتجرد قصدهم عن كل غاية إلا وجه الله وابتغاء مرضاته (فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الروم 38 ، فلا يُستحق الأجر بتمامه إلا إذا كان ذلك ابتغاء وجه الله، ومن هنا نرى البون شاسعا بين أمر فيه طاعة الله يقبل به العبد مخلصا لله، وأمر فيه معصية وهو مُعرض فيه عن أمر الله، وهذه المقارنة القرآنية لو تأملنا فيها نجد أنها تكشف كل ما يتعلق بحياتنا من إخفاق و فشل، أو نجاح وتقدم، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) الروم 39 .
يقول الشيخ على بادحدح: لو سألت الحاج لم تركت اهلك؟ لم خلفت وراءك دارك وعملك وأنفقت مالك ؟ لم خلعت ثيابك ؟ لقال لك : كل ذلك لوجه الله وحده، ينخلع من كل متاع الدنيا ليأتي إلى أرض جرداء، يكدح طوافا وسعيا، ابتغاء لمرضاة الله، من هنا لابد وأن ننتبه إلى آيات القرآن العظيم، نرى فيها ما يعيدنا إلى جادة الصواب، إذا ما ذهلتنا الدنيا، وانشغلناعن الطاعات، يقول الحق جل وعلا: { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ....} الضحي 4 ، ويقول : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) الأعلى 16-17 ، رغم أن المقارنة واضحة، إلا أن الله يخاطب بشرا لهم شهوات دنيوية، قد تفتر عزائمهم، وتضعف نفوسهم، فإذا بالقرآن يبين لهم أن الأمر أبعد من أن يكون للدنيا حظ في منافسة الآخرة، وحسبنا قول الصادق الصدوق "صلى الله عليه وسلم": « لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» أخرجه الترمذي، ويؤكد الشيخ بادحدح أن هذا الحديث موجز في عظمة دلالاته، إذ علام يقتتل الناس ويختصمون ويتحاربون في عالم لا يساوي جناح بعوضة ! أين عقولهم وإدراكهم وإيمانهم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر؟ أين هم من حديث المصطفي "صلى الله عليه وسلم" : ( مَالِيَ وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ فَتَرَكَهَا ) أخرجه الترمذي وابن ماجة، فيرى الدكتور على بادحدح أن الحج هو انعكاس لحقيقة الحياة الدنيا كما صورها النبي في هذا الحديث، فالحاج لا يبني دارا يقيم فيها في الحج، ولا يأخذ معه من الثياب إلا القليل، ولا يعتني بكثير من أسباب الراحة، لأنها أيام قلائل لن تتيح له عيش ولا استقرار، وقتها يدرك الحاج أن أيامه في البقاع المقدسة تشبه أيامه في الحياة الدنيا ، لا ينبغي أن ينشغل فيها بشيء عن الطاعة، ولا يطلب من متاعها إلا قدر الحاجة.
ويختتم فضيلة الشيخ بقوله ليتنا نجعل حياتنا حجا دائما، وألا نقصد إلا وجه الله، وألا تقطعنا عن ذلك الدنيا ومشاغلها، وأن نستقبل هذه الأيام الطيبة بالطاعات والإخلاص لله عز وجل، حتى وإن لم نفد إلى المشاعر المقدسة، فالحج قصد، والقصد يكون بالقلب قبل أن يكون بالبدن.