إن الله تعالى أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكَّى نفسه وعلى خُسران من أهمل ذلك، وعليه فإن النظر إلى حال المسلمين اليوم يرينا مدى الحاجة الماسَّة إلى إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها من جديد على تقوى من الله ورضوان، بعد ما أصاب الناس في زمننا من اشتداد الفتن، وتوالي المحن، وتكرار لحالات الانتكاس، وشيوع الجدل حول كثير من الشبهات، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
حول هذا الموضوع يقول فضيلة الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود – نائب رئيس رابطة علماء المسلمين – أن آية ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ الشمس :9-10، هي آية جامعة شاملة تختصر مسيرة الحياة، حيث وضع المفسرون قولين مشهورين في معناها؛ المعنى الأول قد أفلحت النفس التي زكاها ربها فسارت على طريق الهداية، المعنى الثاني قد أفلح من زكَّي نفسه بالتقوى وصالح الأعمال.
والتزكية جاءت في كتاب الله على وجوه ثلاثة؛ الوجه الأول نسبة التزكية إلى الله تبارك وتعالى ﴿ بَلْ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءْ ﴾ النساء:49، الوجه الثاني هو وصف النبي بها ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ البقرة:151، أما الوجه الثالث فهو: نسبة التزكية إلى العبد ﴿ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَاَ يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ﴾ فاطر:18، فتبين من هذا المعني أن التزكية تكون منك يا عبد الله فأنت الذي تسعي أن تزكي نفسك التزكية الطيبة التي توردك موارد النور والفلاح، وتبعد نفسك عن موارد التهلكة.
ويرى الشيخ أن النفس البشرية لها ثلاثة أحوال؛ الأولى النفس الأمارة بالسوء، وهي النفس التي تأمر صاحبها بالمعاصي وإتباع الهوى والسير في طريق الشرور والشهوات، وهذه النفس بالدرجة الأولى هي المقصودة في باب التزكية، لأنها هي التي تحتاج إلى جهاد ومجاهدة لتطهيرها والسعي لإصلاحها، والرقي بها.
الحالة الثانية هي النفس اللوامة، وهي نفسٌ لديها قدر من التقصير، لكن بها جانب طيب، هو الشعور بالذنب عند اقتراف المعصية، لذا يرى الشيخ أن القول الراجح أن هذه النفس هي نفس ممدوحة، لكن يُخشَى عليها لضعفها وتساهلها في اقتراف المعاصي، وتباطؤها في فعل الخير في بعض الأحيان.
الحال الثالث هو حال النفس المطمئنة، التي رُزِقت نور الإيمان، وانشغلت بالطاعات، وراقبت الله في السر والعلانية، فصارت نفسٌ مطمئنة لها البشارة عند الموت ويوم يبعثون.
هنا يفرِّق الشيخ بينها وبين النفس اللوامة؛ أن النفس المطمئنة في حقيقتها نفسٌ عالية، تجاوزت اللوم فارتقت ووصلت إلى درجة الاطمئنان، بينما لا تزال النفس اللوامة تحتاج إلى تزكية حتى تتطهر وترتقي .
ولتحقيق تزكية النفس، يضع الدكتور المحمود مجموعة من الأسس العقدية، أولها تصفية القلب وإخلاص التوحيد لله، والانقطاع التام عن التعلق بغير الله أو الخوف من غير الله، من هنا يؤكد الشيخ أن مفتاح تحرير الإنسان هو تحرير قلبه من التعلق بغير الله، ولا يكون هذا إلا بتحقيق كمال التوحيد لله عز وجل.
الأساس الثاني لتحقيق التزكية هو التمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، والحرص على تنشئة الأجيال على نور الكتاب والسنة.
ثالثا : الإيمان بالقضاء والقدر، الذي يطهر النفس من الحسد والتطلع إلى ما آتاه الله للآخرين، كذلك يخفف الجزع عند المصائب، ويُعَلِّم النفس الرضا بما كتبه الله.
رابعا: الإيمان باليوم الآخر، فالنفس البشرية متى ما نسيت الآخرة، لهَت، ومتى ما تذكرت الموت وما بعد الموت استيقظت وبدأت تفكر، لهذا يعتبر الشيخ أن تذكُر الوقوف بين يدي الله هو من أعظم الوسائل لتزكية النفس، التي تدفعها للبعد عن المعاصي خوفا من الله، وفعل الطاعات طمعا في رضا الله.
خامسا : طلب العلم الشرعي المؤصل، والعمل به وتعليمه للناس، لأن من زُكيت نفسه بالعلم الشرعي، يرزقه الله حُسنُ البصيرة، خاصة وقت الفتن والمدلهمات التي تزيغ فيها قلوب كثير من الناس.
من أجل هذا – يقول الدكتور المحمود – فإن كمال العبودية لله عز وجل هي لُب تزكية النفس وتطهيرها، وكل عبادة لله هي غاية ووسيلة في نفس الوقت، غاية لأن المؤمن يبتغي بها الأجر من الله، ووسيلة لأنها تربي النفس وتزكيها، وتوصلها إلى مراتب الارتقاء وتذوُّق حلاوة الإيمان.
ويؤكد الشيخ أن تزكية النفس لها ثمرات كبرى:
أولها الراحة النفسية، والحياة الطيبة الهانئة ، وكسب محبة الخَلق في كل مكان، والطمأنينة عند مجيء الأجل، والأمان يوم الفزع الأكبر، ثم بعد ذلك الفوز الأعظم بجنة الله والطمأنينة الأبدية حيث ﴿ لَا خَوْفٌ عَلِيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون ﴾ يونس:62.