تعد الأمانة وحفظ العهود وصون الأسرار فضائل إنسانية واجتماعية محمودة، فهي من أهم أسباب النجاح ودوام الاستقرار في حياة الأفراد والأمم، من هنا عني الإسلام بوضع التشريعات الضابطة لرعاية العلاقات بين الناس، وحماية المجتمع من كافة أشكال الوشاية والخيانة والإضرار بالصالح العام.
حول مسألة كتمان السر تحدث فضيلة الشيخ وليد عبد المنعم آل محمود مؤكدا أن حفظ الأسرار واحد من الآداب الرفيعة التي حث عليها ديننا الحنيف، والتي ينبغي على كل مسلم أن يحرص عليها، لأن إفشاء أسرار الناس يفسد العلاقات، ويوغر الصدور، ويوقع المشكلات على كافة الأصعدة، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما يدل على أنه ينبغي على المرء أن يحفظ سر أخيه، وأنه ذلك يعد من الأمانة التي ينبغي أن تحفظ، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، ومن جملة هذه الأمانات؛ الأسرار، فإذا أطلعك أخيك على سره قصدا، إما شاكيا أو مستشيرا يطلب الرأي، أو إذا أنت اطلعت على سر أخيك مصادفة، صار أمانة ينبغي حفظها، وصار لزاما عليك أن تحترم ثقته حين تدلي برأيك له، لأن الأصل في علاقة المسلم مع أخيه أنه يستره، فالله ستير يحب الستر، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، وكذلك يقول رب العزة: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، فليس من شيم الكرام أن يفشوا أسرار الناس، فهذا من اللؤم المنهي عنه في الشرع.
إلا أنه هناك بعض الأحوال الاستثنائية يجوز فيها للمرء أن يفشي بعض الأسرار إذا كان في ذلك مصلحة؛ فمثلا إذا كان صاحب السر من السباقين بالأعمال الصالحة، واطلاع الناس على أعماله سيكون سببا في الاقتداء به في ميادين الخير، فلا بأس حينئذ بشرط ألا يكون في ذلك أي ضرر أو انتقاص من قدر صاحب السر، ومع مراعاة أن يكون الإنسان حصيفا في التعامل مع أسرار الناس، ولذلك يقال أن "قلوب الأحرار قبور الأسرار" في دلالة على شدة الخصوصية وخطورة حمل أمانة أسرار الناس.
وتحكي لنا السيرة النبوية العطرة العديد من الأحداث التي جرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان للصحابة وزوجات النبي وآل بيته رضوان الله عليهم مواقف مختلفة في التعامل مع أسراره صلى الله عليه وسلم ودقائق حياته غير المعلنة على الناس آنذاك، فلم يكن التعاطي مع سر النبي على شاكلة واحدة؛ من هذه المواقف ما روي في الصحاح عن قصة زواج النبي بالسيدة حفصة بنت عمر، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يعلم بنية النبي في خطبتها ولكنه لم يبح بكلمة عن ذلك لأحد من الصحابة، ولا حتى لأبيها نفسه، حتى صرح النبي وطلبها من عمر رضوان الله عليه وأتم زيجته.
موقف آخر ورد في صحيح مسلم أن أناسا دخلوا إلى أم سلمة زوج النبي وقالوا : "يا أم المؤمنين حدثينا عن سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، أي حدثينا عما لا يمكننا أن نطلع عليه من أمور في حياة الرسول كي نعمل بها، قالت رضي الله عنها: "كان سره وعلانيته سواء"، هذا من صفاء قلبه صلى الله عليه وسلم ونقاء سريرته، لكن الذي حدث بعد ذلك أن أم المؤمنين ندمت وخشيت أن تكون قد أفشت سرا للنبي بقولها هذا، فلما دخل عليها النبي قصت عليه ما حدث فاستحسن قولها، وهذا دليل على جواز افشاء بعض الأسرار بهدف التأسي والاقتداء بمكارم الأخلاق.
موقف ثالث حين أسر رسول الله لابنته فاطمة رضي الله عنها بكلمات فبكت ثم أسر لها ببضع كلمات أخرى فضحكت واستبشرت، وحين سألتها بعض زوجات النبي عما أضحكها وأبكاها قالت: "لم أكن لأفشي سر رسول الله"، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم تغير موقفها، وقصت على السيدة عائشة أنه عليه الصلاة والسلام أخبرها بقرب الأجل، وطلب منها الصبر والاحتساب، ثم بشرها بفضل الله تبارك وتعالى عليها بأن خصها بأنها ستكون سيدة نساء هذه الأمة.
تلك لمحة قصيرة عن بعض ما ورد في السيرة عن مواقف الصحابة وآل بيت النبي من أسراره التي أختصهم بها.
لكن يظل الأصل أن يحفظ كل مسلم ما ائتمن عليه من أسرار الآخرين، وألا يقع في إثم خيانة الثقة أو إفشاء السر.