تعد قضية السلام من القضايا الكبرى في التاريخ، وعلى الرغم من بديهية فكرتها، وميل الفطرة السليمة إليها، وكونها خيار العقلاء والحكماء في تأسيس علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، إلا أن وقائع التاريخ ومجريات أحداثه، تنبئنا أن البشرية لم تنعم دهرا طويلا بسلام كامل.
إن السلام هو جوهر الإسلام، وأساسَ معتقده، وأهم مبادئه، وقيمه الأخلاقية والتشريعية الكبرى، فبالسلام يكون البدء والنهاية والتواصل وتَبني المواقف، يقول رب العزة:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ البقرة 208 ، ويقول الله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) الأنفال 61 ، ويقول الله تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) يونس10 ، ويقول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يونس25 ، بهذه الآيات البينات استهل الشيخ عبد الله بن بيه حديثه عن قيمة السلام وضرورة إقرار السِلم بين الناس، ونبذ كل مايدعو إلى الفرقة والتباغض بين المسلمين، والتخلي عن المفاصلات الأيدلوجية والصراعات الطائفية، مؤكدا أن الخصام ليس قيمة إسلامية بأي حال .
الشيخ عبد الله بن بيه – النائب السابق لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- والذي اُختير من قِبل جامعة جورج تاون كواحد من أكثر 50 شخصية إسلامية تأثيرا، يرى إن الأمة الإسلامية تعيش الآن أوضاعا مأساوية، لا تحتاج إلى وصف، فالواقع يصف نفسه، دمار وتشرد واقتتال وعنف طائفي، كل ذلك يتحدث عن نفسه، أين هذا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعِرضه) ؟ أخرجه أحمد والبيهقي ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه كل من البخاري ومسلم وأحمد، يقول الشيخ بن بيه إن جسد الأمة يتفكك، وبنيان الأمة ينهار ويتداعى، من أجل هذا، ينبغي على علماء الأمة أن يجتمعوا من أجل السلام، يجتمعوا من أجل حل المشكلات، لا من أجل الاصطفافات الطائفية والمفاصلات الأيدلوجية، إن كل قراءة للواقع تؤكد أن السلم يعطي ضمانات لا تعطيها الحرب والمغالبة، والزمن الذي نضيعه في المحاربة والمعاداة لو أننا أنفقناه في قول " ادفع بالتي هي أحسن" لحصدنا نتائج باهرة في أوطاننا .
يا أمة الإسلام- يضيف الشيخ عبد الله بن بيه – لقد أعطاكم الإسلام فقه الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة، أي مصلحة في الاحتراب؟ أي حكمة في أن يفني بعضنا بعضا بلا أفق؟ كانت القبائل العربية قديما تقتتل فيما بينها عشرات السنوات بلا وقفة واحدة للتعقل، فجاء الاسلام بالمعاهدات والاتفاقات، وجاء بالعفو (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) البقرة 178.
إن فقه المصالحة يدخل في كل معاملات الناس؛ بين الدول، بين العائلات والأحوال الشخصية، يدخل في النزاع في الأموال والدماء، والصلح ليس معناه الحق الحاسم، وإنما معناه التنازل والمقاربة، ثم إن التنازلات ليست معيبة، فنحن في أمس الحاجة لأن نجعل مقصد السلام مقدما على الحقوق الدنيوية، بعدما تحولت مفاهيم السلم في ديننا اليوم إلى مفاهيم للحرب، الاختلاف كان رحمة للأمة ، صار سببا في النزاع، الجهاد كان قوة للسلام، وأحيط بشروط وضوابط إذا لم يستوفها كان وبالا على الناس، فالنبي – صلى الله عليه وسلم- عندما كان يدعو للجهاد فهو إمام للمسلمين ورأس الدولة وقائدها الأعلى، لم يترك الأمر للأفراد بغير تدبير، ثم إن الجهاد كان في زمن لا توجد فيه أسلحة تبيد البشرية، ولا توجد فيه حدود سيادية بين البلدان، ولا مواثيق دولية لا يجوز خرقها، كان في زمن يتعذر فيه إبلاغ دعوة الإسلام بغير إرسال قوة مسلحة، كل هذه المعطيات تغيرت، ووضع هذه المفاهيم في غير سياقها هو تعدي على الشريعة، نصوصا ومقاصد، لذا، يرى الشيخ أن على علماء الأمة اليوم أن يحرروا هذه المفاهيم تحريرا شرعيا، وأن يقدموها للناس، لتستعيد فِهم مقاصد الشرع، ولتبني جسورا للتواصل، لعل أحدهم ير الجسر فيعبر إلى الآخر بدلا من أن يجافيه، فهذه المفاصلات لا تخدم أحدا، ونحن نرى الأوطان تنقسم وتضيع، والأرواح تُحصد بغير ذنب، يقول فضيلة الشيخ: نريد أن نرسخ منظومة الصلح والتحكيم والوساطات والتسويات في حياة الناس، هذا من صميم الدين، نريد أن نقدم قيم السلم في الإسلام، نقدم مبدأ أن الاختلاف رحمة للأمة، لا أن يكون عذابا للأمة، الاختلاف هو قبول العُذر، وهو معرفة مراتب النهي والأمر، إذا خرج الاختلاف عن ذلك يكون بغيا، يجب أن نتحرك تحركا جادا لتكوين مجموعات سِلم تجوب أنحاء العالم، في المنتديات والمؤتمرات، في الإعلام والجامعات، تشرح لشبابنا أن الشريعة رحمة كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها، فأين المصلحة في الاقتتال والخراب؟ إن السلم حق وليس أكذوبة، السِلم أضمن للحقوق، والواجبات، لابد وأن نوجِد أرضية مشتركة لنتمكن من العيش، فإن لم نوقِف هذا النزيف، فإن الأمة ستضيع في نفق مظلم لا نرى له نهاية.