بدعوة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، حل فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن حميد - إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة - ضيفا على دولة الكويت في زيارة استغرقت عدة أيام التقى خلالها بسمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد، ووزير العدل والأوقاف والشئون الإسلامية يعقوب عبد المحسن الصانع، ورئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، وعدد من كبار رجال الدولة، كما ألقى عدة محاضرات جماهيرية حول أبرز الموضوعات المطروحة على الساحة في الوقت الراهن.
كيف النجاة في زمن الفتن ؟
حول توالي الفتن والنوازل في واقعنا المعاصر يقول فضيلة الشيخ أن من معالم الهُدى أن نبينا محمدا "صلى الله عليه وسلم" أخبرنا عن حلول فتن شديدة وأحداث هرج ومرج في آخر الزمان، ليس من أجل إخافتنا، وإنما من أجل الاستعداد وأخذ الحيطة وبذل المزيد من الطاعات والصالحات للنجاة من الفتنة وشرورها، فالعبد المؤمن الحق إذا ما سمع أو عاصر أي من أخبار الفتن، اجتهد نحو العمل بحزم للنجاة من تبعاتها، دون الاستغراق في التحليلات والتأويلات التي قد لا تغني ولا تفيد، وإنما تستخدمها وسائل الإعلام لإلهاء الناس وجذبهم لمتابعتها ليل نهار، والأجدر أن ينصرف المرء إلى شئونه ومسئولياته المؤتمن عليها والمحاسب عنها، ويرى الشيخ أن العبادة في أزمان الفتن فرارٌ من موجاتها العاتية، فرارٌ إيجابي، وليس انهزاما أو سلبية.
من معالم الهدى في أوقات الفتن أيضا التأني في الفهم والتأويل، والتثبت من الأخبار أيا كان مصدرها، والتروي وعدم التعجل في إعطاء الرأي دون بيِّنة، بل أنه ليس لزاما على كل أحد أن يبدي رأيه في كل حدث، ويقدم تحليلا حول كل واقعة أو مستجد، فالأفضل إذا لم يتبين الإنسان موقف واضح مدعوم برأي علماء ثقات، أن يعتزل الخوض في ذلك أو الانشغال به، إيثارا للسلامة، يقول النبي "صلى الله عليه وسلم" : " إن بين أيديكم فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي" رواه أبو داوود.
لذا ينبغي الثقة في أهل العلم والتحصن بهم والبعد عن الخوض في الشبهات والصراعات، واليقين بأن براءة الذمة وسلامة الدنيا والدين تحصل بالرجوع إلى العلماء الثقات، والبعد عن مجالس الجدال والوقيعة وانتقاص أقدار الناس، كما ينبغي لزوم السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، ولزوم جماعة المسلمين، والحذر من الفرقة وشق الصف، فالطاعة هي السبيل للحفاظ على هيبة الدولة وتماسك الأمة وصمودها أمام أية محاولات للهدم والتخريب.
شبابنا ضحايا لغُلاة الإفراط والتفريط
يشعر الشيخ بن حميد بالأسى على بعض شباب المسلمين الذين زاغوا في طريق الغلو والتطرف والأذى، وهم يتصورون أنهم ينصرون الدين، فلا نصرا حققوا، ولا خيرا أتى من وراء دعاواهم المسيئة، بل ازداد التشرذم والشقاق، وسالت دماء وتقطعت أواصر وخربت ديار وبلدان، وهذا أعظم أذى لحق الأمة من جراء أفعالهم.
يرى فضيلة الشيخ أن شباب المسلمين مستهدفون من غلاة الإفراط وغلاء التفريط على حد سواء، فغُلاة الإفراط يشككون في مرجعية الأمة، ويعملون على إقصاء العلماء وانتقاص قدرهم، ويغذون روح التعصب والتشنج والوقوف عند الرأي الواحد، وغُلاة التفريط يستغلون ذلك الشطط ليحاربوا الأمة في هويتها، ويعمدوا إلى التشكيك في ثوابت الدين بدعوى محاربة الغلو، من هنا يبرز دور المنابر الذي ينبغي أن يُفعّل لحماية الشباب، فالإسلام ليس دين طقوس، وإنما دين حياة، والمنبر لقاء أسبوعي تعليمي نموذجي لابد وأن يعود له دوره المحوري في تشكيل وعي المسلم، ينبغي على الجهات المسئولة عن المنابر وضع خطط واستراتيجيات جديدة، تستهدف جيل الشباب وتستلهم مقومات العصر ومستجداته، وأن تتضافر جهود المساجد مع الجهات التربوية والأسر من أجل إعادة توجيه الشباب، وتكوين مفهوم الرقابة الذاتية في نفوسهم، وتربية الشعور بالمسئولية لإعطائهم الثقة والقدرة على التمييز مابين الخبيث والطيب من وسائل الاتصال الحديثة.
من ناحية أخرى، يؤكد الشيخ على أهمية تعزيز ثقافة الحوار لدى الناس، وأن يتعلموا ممارسة القدر المعقول من النقاشات دون تجاوز أو تعصب، واحترام الاختلافات وتقبل الطرح الآخر في أي نقاش، وأن تتسع صدورنا عندما لا يوافق الطرف الآخر على آرائنا، فالأنبياء المعصومون أنفسهم كانت مهمتهم هي البلاغ فقط، وليس إقناع الناس وهدايتهم، فالهداية بيد الله وحده عز وجل، لذا يرى الشيخ أنه ينبغي ألا ينشغل الشباب بإقناع المخالفين بوجهات نظرهم، فما تقوله هو رأي واجتهاد، وللآخر حق ألا يتقبل هذا الرأي ويرى غيره، وأن يعرف المتحاورون أن ثمة حدود يقف الجميع عندها، حتى لا يتحول كل حوار إلى صراع وخلاف، فكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، فالمذاهب والطوائف كانت وستظل موجودة وشاهدة على تنوع الآراء والأفهام، يجب ألا تستغل لإذكاء النزاعات والصراعات وإضعاف فرص التعايش بين الناس.
وفي النهاية يوصى فضيلة إمام الحرم المكي شباب الأمة أن يدركوا مرحلة الشباب، ويبادروا إلى تغيير أنفسهم إلى ما يحبه الله ويرضاه، وأن يتحروا ويتثبتوا من كل أمر وأن يثقوا في علماء الأمة، وأن يستكملوا أدوات استقلالهم وبناء شخصيتهم بالتخطيط السليم، وترتيب الأولويات، وتجنب العشوائية والتخبط، والحرص على بناء علاقة تفاعلية تكاملية مع الآخرين، تفيد وتستفيد، كما يوصى بالإخلاص، والإحسان، والتناصح، وترك ما يريب، والتثبت من كل ما يُسمع ويُنقل، وعدم الاغترار بالكثرة في الموافقة والمخالفة.