خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17 من جمادى الأولى 1445هـ الموافق 1 /12 / 2023م
مَحَاسِنُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ – عِبَادَ اللهِ - وَنَفْسِي أَوَّلًا بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( [آل عمران:102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: أَنْ وَفَّقَهُمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَحَبَاهُمْ هَذَا الْإِكْرَامَ؛ إِذْ هُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ تَعَالَى دِينًا سِوَاهُ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: )وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( [آل عمران:85].
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الْكَامِلُ، الْمُنَزَّلُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ: هُوَ لِكُلِّ شَيْءٍ شَامِلٌ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ -مَعْشَرَ الْيَهُودِ- لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ([المائدة:3] فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ).
فَمَنِ اتَّبَعَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَمَسَّكَ بِكِتَابِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاقْتَفَى سُنَّةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَدْ فَازَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَتَبَوَّأَ أَعَالِيَ الْجِنَانِ، مَعَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَرَاحَةِ الْجَنَانِ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: )فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( [طه:123-127].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدِ امْتَازَتْ شَرِيعَتُنَا الْغَرَّاءُ بِمَزَايَا عَظِيمَةٍ، وَصِفَاتٍ كَرِيمَةٍ، جَعَلَتْهَا شَرِيعَةً خَالِدَةً بَاقِـيَةً مَا بَقِيَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ ذَلِكُمْ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ السَّمْحَةَ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَيْسَتْ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ، أَوْ أَفْكَارِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِيهُمُ النَّقْصُ وَالزَّلَلُ، وَيَلْحَقُهُمُ الضَّعْفُ وَالْخَلَلُ.
فَمِنْ أَعْظَمِ مَا تَمْتَازُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّهَا تَرْبِطُ الْعَبْدَ - فِي كُلِّ أَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، وَتَشْرِيعَاتِهَا وَآدَابِهَا - بِالْمَلِكِ الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ؛ إِذْ جَعَلَتْ مِنَ الْإِنْسَانِ رَقِيبًا عَلَى نَفْسِهِ، يَخْشَى رَبَّهُ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهَا غَرَسَتْ فِيهِ الْإِيمَانَ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخِفْي الصُّدُورُ، فَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ لَا يَعْصِي اللهَ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ خَالِياً لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ مَتَى مَا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى وَجِلَ قَلْبُهُ، وَازْدَادَ إِيمَانُهُ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( [الأنفال: 2-4].
وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: تَحْقِيقُ الْأَمْنِ لِلنَّاسِ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، فَتَزُولُ الْجَرَائِمُ أَوْ تَقِلُّ؛ قَالَ تَعَالَى: )الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( [الأنعام:82]. وَمَنْ لَمْ تَمْنَعْهُ الْمَوَاعِظُ النَّافِعَةُ، أَتَتْهُ الْعُقُوبَاتُ الرَّادِعَةُ؛ فِي جَرَائِمِ الرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ؛ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: )ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ([الجاثية:18].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَمِنْ أَجَلِّ مَا تَمْتَازُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَيْضاً: أَنَّهَا تَجْمَعُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ حَاجَاتِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَتَجْعَلُهُمَا يَسِيرَانِ بِالتَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، وَفِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّقِيِّ وَالْكَمَالِ، بِلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ.
فَشُرِعَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا يَمْلَأُ قَلْبَهُ بِالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ، مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْإِكْرَامِ؛ فَحَرَكَاتُ الْمُسْلِمِ وَسَكَنَاتُهُ، وَيَوْمُهُ وَلَيْلُهُ، وَسِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ، لَا تَخْلُو مِنْ عِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ، وَقُرْبَةٍ وَإِنَابَةٍ. كَمَا شُرِعَ لَهُ مَا يُحَقِّقُ لَهُ دَوَاعِيَ جِسْمِهِ الْغَرِيزِيَّةَ، وَالضَّرُورَاتِ الْإِنْسَانِيَّةَ، كَحَاجَتِهِ إِلَى قَضَاءِ وَطَرِهِ: فَشَرَعَ لَهُ الزِّوَاجَ، وَرَغَّبَ فِيهِ الشَّرْعُ غَايَةَ التَّرْغِيبِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ، مِنِ اسْتِقْرَارِ النُّفُوسِ، وَوُجُودِ الذُّرِّيَّةِ، وَتَحْقِيقِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ([الروم:21]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: )وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ([النور:32]، فِي حِينِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ حَرَّمَتِ الْفَوَاحِشَ تَحْرِيمًا بَلِيغًا، وَسَدَّتْ بَابَهَا سَدًّا مَنِيعًا؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ ذَهَابِ الْمُرْوءَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَانْتِشَارِ الْأَمْرَاضِ وَالْغَوَائِلِ، وَضَيَاعِ الْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( [الإسراء:32].
عِبَادَ اللهِ:
وَفِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ: أَبَاحَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَلْوَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مِنْ كُلِّ مَا لَذَّ وَطَابَ؛ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( [البقرة:172]، لَكِنَّهُ – سُبْحَانَهُ – حَرَّمَ عَلَيْنَا كُلَّ ضَارٍّ وَخَبِيثٍ؛ لِمَا يَعُودُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْهَلَاكِ، أَوْ ضَيَاعِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ؛ فَقَدْ قَالَ – سُبْحَانَهُ – فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ) وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ( [الأعراف:157]، وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَبَاحَ لَنَا الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: ) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( [البقرة:173]. وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْحِكَمِ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( [المائدة:90-91]، وَصَدَقَ رسُولُنَا الْكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ؛ مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ» [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. فَيَا لَهَا مِنْ شَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، شَرَعَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُحَافِظُ عَلَى ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ الْخَمْسِ: الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ!.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الدَّاعِي إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْأَنَامِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ الْكِرَامِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِهُدًى وَإِحْسَانٍ مَا تَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى – عِبَادَ اللهِ - حَقَّ تَقْوَاهُ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَمِنْ عَظِيمِ مَحَاسِنِ شَرِيعَتِنَا الْعَلِيَّةِ: أَنَّهَا نَادَتْ بِسُلُوكِ نَهْجِ الْوَسَطِيَّةِ، فَقَدْ وُصِفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( [البقرة:143].
وَأَنَّهَا رَبَطَتِ الْأَحْكَامَ بِالْأَخْلَاقِ؛ قَالَ تَعَالَى: )لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ([آل عمران:164]، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
أَلَا وَإِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّهَا اتَّسَمَتْ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ وَبِكُلِّ حَيٍّ مِنَ الْكَائِنَاتِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ، فَنَهَتْ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ؛ أَيِ الْعُبَّادِ، وَعَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ، وَعَنْ تَخْرِيبِ الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا؛ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- «وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ»، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. فَمَا أَعْظَمَ شَرِيعَةَ اللهِ الْخَاتِمَةَ! وَمَا أَحْسَنَ أَحْكَامَهَا الْكَامِلَةَ!.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ احْفَظْ صَاحِبَ السُّمُوِّ أَمِيرَ الْبِلَادِ بِحِفْظِكَ وَاكْلَأْهُ بِرِعَايَتِكَ وَمُنَّ عَلَيْهِ بِالشِّفَاءِ الْعَاجِلِ وَمَتِّعْهُ بِمَوْفُورِ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَاحْفَظْهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة